مراجعة فيلم لا تنظر فوق Don’t look up 

 


▪︎ فيلم Don’t look up 2021:.

عوَّدتني ذاكرتي على إحداث روابطَ غريبةٍ بين محتوياتها، من ذلك مثلاً أني أثناء مشاهدتي لفيلم "لا تنظر فوق Don’t look up" تذكرتُ مباشرةً هذا المقطع من رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ:

"وقال أحمد نصر إنَّ كلَّ حيٍّ هو جادٌّ ويمارس حياته على أساسٍ من الجدية، وإن العبث يقتصر عادةً على الأدمغة، وقد تجد قاتلاً بلا سبب في روايةٍ مثل رواية (الغريب) أما في الحياة الحقيقية فإن (بيكت) نفسه أولُّ من يسارع بإقامة الدعوى على ناشرٍ إذا أخلَّ بشرطٍ من شروط العقد الخاص بأيِّ كتابٍ مِن كُتبه العبثية".


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____




__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


يشكِّك الكاتب هنا في مَزاعم العبثية، لكن الجدية المذكورة هنا هي جديةٌ مقصورةٌ على الفائدة الشخصية للفرد في أضيق صورها، وأما القضايا الكبرى والإيديولوجيات بأنواعها فلا وجود لها إطلاقاً في الأدمغة العبثية. وعموماً فإن الجدية بمعناها العريض موجودةٌ حصرياً عند أصحاب الأفكار، وهؤلاء لا يكادون يخرجون عن ثلاثة: أتباع الأديان بأنواعها، والشيوعيون المناضلون لأجل العمَّال، والرأسماليون المتحكِّمون في مَفاصل العالم.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


نعم إن الرأسمالية نظامٌ بالغ الجدية، بل لعله آخر قلاع الجدية في هذا العالم، وتكمُن خطورته في تعلُّقِه بالمال بوصفه عصب الحياة وشريانها النابض، فهو من ثمة قادرٌ على الشمول والاحتواء والتغلغل في أصغر تفاصيل الحياة. إن كانت فلسفة العدمية والعبث شائعةً في أيامنا هذه فإن الرأسمالية تستغلُّها بجدية تامة؛ كن عدمياً ما شئتَ، لكن ادفع فواتيرك أولاً! سنوفِّر لك كل ما يلزم لتمارس حياتك على أساسٍ من فلسفتك العبثية، وبأسعار مناسبة جداً! وإن كنتَ من أهل الثقافة فهذه كتب الفلاسفة العبثيين عليها تخفيضٌ مغرٍ، سارع قبل نفاد الكمية!


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


في هذا السياق جاء فيلم "Don’t look up" برسالة مراوغة، وبأسلوبِ عرضٍ جعله قابلاً لتعددية التصنيف؛ فهو إن شئتَ فيلمٌ تجاريٌّ تافهٌ وهناك ما يدعم هذا الرأي، وهو إن أردتَ فيلمٌ ذو حمولة فكرية وفلسفية ثقيلة، وإن رأيتَه تافهاً فلأنه يريك وجهكَ في مرآة الحقيقة، ويصف حياتكَ كما هي دون تزييفات ولا أوهام.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


خطرٌ حقيقيٌّ يتهدَّد الحياة على سطح الأرض، وهو ليس خطراً مما اقترفته يد الإنسان بل هو قادمٌ من هناك، من المجهول، من الأعلى، وهو ما يدغدغ ولو بشكل غير مباشر التصوُّر الديني حول العقوبة الإلهية. لكن الإنسان مع ذلك ليس خِلواً من المسؤولية ولا هو مبرَّأٌ من الملامة، فها هم أولاء رجال العلم يصطدمون بعبثية الإنسان وما انتهى إليه من ضيق الأفق في مواجهة الأخطار المحدقة به، وحين يقفون بنا على مستوى السطحية والتفاهة في مكتب رئيسة الولايات المتحدة فإننا نكوِّن فكرة عن بقية العالم من باب أولى.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


يخبرنا الفيلم بأن عبثية الإنسان بلغت مداها، وبأن الأفكار العدمية قد عُمِّمت أو تكاد على بني البشر، ومنتهى العدميةِ الموتُ أو الانتحارُ بأنواعه، وأن يقرأ الإنسان تحذيراً بأن هذه المادة الغذائية مسرطنة فيعدَّ التحذير دعايةً للمادة، وأن تصير عبارة "التدخين يقتل" على علبة السجائر هي أكثر ما يغري بشرائها والإفراط في التدخين.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


وها هو ذا مذنَّبٌ سينهي الحياة على الأرض في غضون ستة أشهر، فكيف تلقَّى الإنسان المعاصر، العبثي بطبيعته، هذا الخبر الفاجع؟ بمزيد من التفاهة والعبث! بمزيد من الاستهلاك الجنوني والسعي وراء اللايكات والمشاهدات وإنجاح البرامج الإعلامية بوسائل الإثارة الرخيصة! بمزيد من الحسابات السياسية الضيقة التي تدلُّ على أن أقصى ما يراه الإنسان هو مصلحته الخاصة ومتعته الحسية وعلى المدى القريب جداً وليس حتى على المدى المتوسط أو البعيد.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


ومع اقتراب الخطر حصل التباين الحاد بين القوى الثلاث المتصارعة في العالم، وهي قوىً يمكن تلخيصها في عبثية واحدة وجدِّيتين:

- العبثية العامة: وتشمل عموم شعوب العالم، والقوى الإعلامية والسياسية، وشعار هؤلاء "لا تنظر فوق"، لا تهتمَّ بشيء حتى لو كان خطراً يتهدَّد حياتك، سنموت جميعاً لا محالة لذلك لا داعي للتفكير، إن هي إلا لحظةُ ألمٍ سريعةٌ واحدةٌ ثم ينطفئ كل شيء إلى الأبد، وفي انتظار ذلك لنحاول الاستمتاع بأكبر قدر ممكن بالأشياء المادية والملذَّات الحسية.

- الجدية العلمية: وهي جديةٌ تكاد تكون دينية، وتهدف إلى تخليص العالم من الخطر بحسن نية وتجرُّد، وبعيداً عن أية حسابات سياسية أو شخصية. هذه الجدية مرفوضة في العالم وصوتها غير مسموع، إنها ثقيلة ومنفِّرة وتزعم أنها تعلم الغيب، وتخبرنا -بانعدام ذوق وقلة أدب- أننا جميعاً سنموت! إنها تخاطبنا بأسلوب المواعظ وتريد أن تنتزعنا مما نحن منغمسون فيه! إنها تتطلب منا جهوداً وتحمِّلنا تكاليف، وتريدنا على أن ننزع عيوننا من شاشات هواتفنا وأن ننظر إلى السماء، وفي هذا وقتٌ مستقطَعٌ من حيواتنا ما كان أجدرَه أن يُبذَل في لذَّاتٍ جديدة!

- الجدية الرأسمالية: هي جديةٌ نعم لكنها ليست خيِّرةً ولا تهدف إلى صالح البشرية، بل ما هي إلا الأنانية المطلقة حين تدعمها قوة رهيبة تجعلها قادرة على التغلغل في كل شيء وعلى التسرب إلى كل شيء بدءاً من المكتب البيضوي وانتهاء بأرخص سلعة استهلاكية يبتاعها مراهقٌ من عامة الشعب. والخطير هنا أن العلم نفسه لم يسلَم من التغلغل الرأسمالي، فها هي ذي شركة Bach تملك من المعدَّات المتطورة الثقيلة ما يكفي لتنظيم رحلة فضائية إلى المذنَّب، ليس لتدميره وتخليص البشرية من خطره بل لأجل الاستفادة مما فيه من المعادن النفيسة الصالحة للاستغلال التجاري!


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


ثم من المنتصر في النهاية؟ إنها بطبيعة الحال الرأسماليةُ المسلَّحةُ بالعلم! كان الفيلم قاسياً في نهايته ولم يعطف على المشاهد بنهاية سعيدة تتغلَّب فيها البشرية على التهديد، بل سيقع المحظور على أبشع ما يكون، وستفنى الحياة على ظهر الأرض، ولن ينجو منها إلا حفنةٌ من كبار الأثرياء الذين يملكون من المال والعلم ما يكفي لصناعة مركبة مزوَّدة بنظام تجميد مُحكم.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


سينزل البشر في "أرض أخرى" بعد آلاف السنين، سينزل آدم مرة أخرى عارياً كما خُلِق، لكن آدم الجديد هذه المرة ليس بدائياً كما تصوِّره الأساطير، بل مديرُ شركة صناعات ثقيلة مزودٌ بأحدث التقنيات، ومستعدٌ لرحلة جديدة من استغلال ثروات الأرض الجديدة، وتسخيرها لخدمة نظام رأسمالي متوحش جديد.


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


فيلم قوي أراه جيداً وذا رسالة تستحق التأمل، وهو لا يخلو رغم أهميته من كثير من الهراء الأمريكي المعتاد والعجرفة النرجسية المثيرة للغثيان، كما لا يفوتني أن أشير إلى أن الفيلم نفسَه صناعةٌ رأسمالية! وعموماً فإن الرأسمالية لا تتردد في انتقاد ذاتها بأعنف الطرق الممكنة إن ثبت لها أن هناك سوقاً يرُوج فيها ذلك الانتقاد، وأنه سيحقق لها أرباحاً طائلة. لكن ومن وجهة نظر فنية بحتة، فإن شيئاً من الزِّيف لا بد أن يتسرَّب إلى أمثال هذه الأعمال، تماماً كما تتسرَّب علامات التصنُّع إلى صرخات النائحة المستأجَرة…


تقييم الفيلم: ⭐️⭐️⭐️⭐️


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____


▪︎ أنس محمد سعيد (المغرب)


__★☆★__
___☆★☆★☆___
____★☆★ ☆★☆★☆ ★☆★____



إرسال تعليق على: "مراجعة فيلم لا تنظر فوق Don’t look up  "